سورة مريم - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام بأن بني اسرائيل اختلفوا أحزاباً أي فرقاً، وقوله {من بينهم} معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين. وروي في هذا عن قتادة أن بني اسرائيل جمعوا من أنفسهم اربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال احدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم: عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله، ومريم إله، وعيسى إله، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريقاً من بني اسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع. وروي أن في ذلك نزلت {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21]. والويل الحزن والثبور، وقيل ويل واد في جهنم، و{مشهد يوم عظيم} هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب {مشهد يوم عظيم} يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة وقوله {أسمع بهم وأبصر}، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع بهم من العذاب، فإن إعراضهم حينئذ يزول ويقبلون على الحقيقة حين لا ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ثم قال: لكنهم اليوم في الدنيا {في ضلال} وهو جهل المسلك، والمبين في نفسه وإن لم يبين لهم، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال: {أسمع بهم وأبصر}، هي بمعنى الأمر لمحمد عليه السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذ أتوا محشورين مغلوبين، وقوله {وأنذرهم يوم الحسرة}، الآية، الخطاب أيضاً في هذه الآية لمحمد عليه السلام والضمير في {أنذرهم} لجميع الناس، واختلف في {يوم الحسرة} فقال الجمهور وهو يوم ذبح الموت، وفي هذا حديث صحيح، وقع في البخاري وغيره، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة خلود لا موت فيها ويا أهل النار خلود لا موت، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفاً على ما هم فيه. والأمر المقضي، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء، كما يقال: تدفن الغوائل وتجعل التراب تحت القدم، ونحو ذلك، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها، وقال ابن زيد وغيره {يوم الحسرة} هو يوم القيامة، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة، والأمر المقضي على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم، وقال ابن مسعود {يوم الحسرة} حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين، ويحتمل ان يكون {يوم الحسرة} اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك.
وقوله {وهم في غفلة}، يريد في الدنيا الآن {وهم لا يؤمنون} كذلك. وقوله {نرث}، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش {يرجعون} بالياء، وقرأ الأعرج {ترجعون} بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى {يرجِعون} بالياء من تحت مفتوحة وكسر الجيم، وحكى عنهم أبو عمرو والداني {ترجعون} بالتاء.


قوله: {واذكر} بمعنى واتل وشهر، لان الله تعالى هو الذكر، و{الكتاب} هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، والصديق، فعيل بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم {إنه كان صادقاً}، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزاً، ويقال عود صدق للصلب الجيد، فكان إبراهيم عليه السلام يوصف بالصدق على العموم في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب، وأبو بكر رضي الله عنه وصف بـ صدّيق لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته الى الإيمان وما يقرب من الله تعالى، والصديق مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى: {الذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} [الحديد: 19]. وقوله {يا أبت}، اختلف النحاة في التاء من {أبت}، فمذهب سيبويه أنها عوض عن ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء، لان الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود {واأبت} بواو للنداء، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. {يا أبتَ} بفتح التاء، ووجهها أنه أراد يا أبتا فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة، والذي {لا يسمع ولا يبصر}، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده. وقوله {قد جاءني} يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبئ، والصراط السوي، معناه الطريق المستقيم، وهو طريق الإيمان، وقوله {يا أبت لا تعبد الشيطان}، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره. وقوله {لا تعبد الشيطان} يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. والعصى، فعيل من عصى يعصي اذا خالف الأمر، وقوله {أخاف أن يمسك} قال الطبري وغيره {أخاف} بمعنى أعلم.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أنه خوف على بابه، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائساً من إيمان أبيه، فكان يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره الى الموت فيمسه العذاب، والولي الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة، قال آزر وهو تارخ {أراغب أنت عن آلهتي}، والرغبة ميل النفس، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه، وقوله {أراغب} رفع بالابتداء و{أنت} فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد راغب على ألف الاستفهام، ويجوز أن يكون راغب خبراً مقدماً و{أنت} ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه.
وقوله {عن آلهتي}، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده، وقوله {لأرجمنك} اختلف فيه المتأولون، فقال السدي وابن جريج والضحاك: معناه بالقول، أي لأشتمنك {واهجرني} أنت إذا شئت مدة من الدهر، أو سالماً حسب الخلاف الذي سنذكره. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه {لأرجمنك} بالحجارة، وقالت فرقة: معناه لأقتلنك، وهذان القولان بمعنى واحد، وقوله {واهجرني} على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال: إن لم تنته لأقتلنك بالرجم، ثم قال له {واهجرني} أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة و{ملياً} معناه دهراً طويلاً مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف، وقال ابن عباس وغيره {ملياً} معناه سليماً منا سوياً فهو حال من {إبراهيم} عليه السلام، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبداً بحالك غنياً عني ملياً بالاكتفاء.


قرأ أبو البرهسم {سلاماً عليك} بالنصب، واختلف أهل العلم في معنى تسلميه عليه، فقال بعضهم هي تحية مفارق وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها. وقال الجمهور: ذلك التسليم بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية، قال الطبري معناه أمنة مني لك، وهذا قول الجمهور وهم لا يرون ابتداء الكافر بالسلام، وقال النقاش: حليم خاطب سفيهاً كما قال، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ورفع السلام بالابتداء، وجاز ذلك مع نكرته لأنها نكرة مخصصة فقربت من المعرفة ولأنه في موضع المنصوب الذي هو سلمت سلاماً وهذا كما يجوز ذلك في ما هو في معنى الفاعل كقولهم شراً أهرّ ذا ناب، هذا مقال سيبويه، وقوله تعالى {سأستغفر} معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وهذا أظهر من أن يتأول على إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر، وقد يجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبي أوحي إليه أن لا يغفر لكافر، لأن هذه العقيدة إنما طريقها السمع، فكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ذلك، وإبراهيم عليه السلام إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهبن إما بموته على الكفر كما روي وإما بأن أوحي إليه تعسف الحتم عليه، وقال مكي عن السدي: أخره بالاستغفار الى السحر، وهذا تعسف، وإنما ذكر ذلك في أمر يعقوب وبنيه وأما هذا فوعد باستغفار كثير مؤتنف فالسين متمكنة. والحفي المبتهل المتلطف وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه، ثم أخبره أنه يعتزلهم أي يصير عنهم بمعزل، ويروى أنهم كانوا بأرض كوثا فرحل إبراهيم عليه السلام حتى نزل الشام وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم هاجر بسارة الحديث بطوله، و{تدعون} بمعنى تعبدون، وقوله {عسى} ترج، في ضمنه خوف شديد، وقوله {فلما اعتزلهم} الى آخر الآية، إخبار من الله تعالى لمحمد عليه السلام أنه لما رحل عن بلد أبيه وقومه عوضه الله من ذلك ابنه {إسحاق} وابنه {يعقوب} وجعل له الولد تسلية وشداً لعضده، و{إسحاق} أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة فحملت ب {إسحاق} هذا ما روي، وقوله {ووهبنا لهم من رحمتنا} يريد العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الأخرة، كل ذلك من رحمة الله، ولسان الصدق هو الثناء الباقي عليهم أخر الأبد، قاله ابن عباس. واللسان في كلام العرب المقالة الذائعة كانت في خير أو شر ومنه قول الشاعر: [البسيط].
إني أتتني لسان لا أسر بها *** من علو لا كذب فيها ولا سخر
وقال آخر: [الوافر]
ندمت على لسان فات مني *** وإبراهيم الخليل وبنوه معظمون في جميع الأمم والملل صلى الله عليهم أجمعين.
^

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8